ماجد كيالي يكتب : الحرب الروسية-الأوكرانية …. متغيرات نشأت في المشهد الصراعي بين الطرفين
رغم مرور ستة عشر شهراً على الحرب الروسية ـ الأوكرانية، بمداخلاتها الدولية، وبكل المآسي التي نتجت منها، لا تزال مختلف الأطراف تتمسك بالادعاءات ذاتها التي أدت إلى تلك الحرب، والتي بدأت بغزو روسيا لأوكرانيا (شباط/ فبراير 2022)، مع ذلك، وبعد كل تلك المدة، ثمة متغيرات نشأت في المشهد الصراعي بين الطرفين.
مثلاً، فقد انتهى، من الناحية العملية، السعي، أو الطموح الروسي للإطاحة بالنظام الأوكراني، او الهيمنة على أوكرانيا، بحيث بات ذلك الأمر يقتصر على محاولة الحفاظ على شبه جزيرة القرم (تمّ ضمّها في العام 2014 إلى روسيا) وعلى أقاليم لوغانسك ودونيتسك و خيرسون وزابوريجيا، التي أعلنت روسيا ضمّها في أواخر أيلول (سبتمبر) الماضي.
في الإطار نفسه، بينت وقائع تلك الحرب حدود القدرات العسكرية الروسية، إذ لم يستطع الجيش الروسي كسب مزيد من الأراضي، كما فعل في بداية دخوله الأراضي الاوكرانية، بل وتراجع في مساحات واسعة، في إقليم دونباس، إضافة إلى أنّه، على مدار نحو عشرة أشهر، بالكاد استطاع حسم المعركة على بلدة صغيرة هي باخموت، والتي لا يبدو أنّه سيستطيع الإحتفاظ بها مع الهجوم الأوكراني المضاد، علماً أنّه كان استطاع ذلك قبل أسابيع قليلة بواسطة قوات “فاغنر”، وهي ميليشيا خاصة للمرتزقة.
الفكرة هنا، أيضاً، أن الجيش الأوكراني الصغير، قياساً إلى الجيش الروسي، استطاع امتصاص الضربات والهجمات الروسية الأولى، والصمود، وتالياً استعادة زمام المبادرة، وذلك بأسلحة غربية، معظمها من جيل سابق.
بيد أن المشهد الأهم في الصراع العسكري الجاري هذه الأيام، بين الطرفين المعنيين، يتمثل بانتقال الجيش الروسي من مرحلة الهجوم إلى الدفاع، وانتقال الجيش الأوكراني من مرحلة الدفاع إلى الهجوم، مع ملاحظة، إنّ الجيش الأوكراني يشتغل على ذلك بواسطة الاقتصاد بطاقاته البشرية والعسكرية، وبصبر، ووفق خطة معيّنة، على خلاف ما فعله الجيش الروسي الذي وسّع رقعة الحرب، واستعجل هزيمة خصمه في بداية غزوه أوكرانيا. ومعلوم أنّ القيادة الأوكرانية تؤكّد أنّ الهجوم المضاد الموعود لم يحصل بعد، وأنّ ما يحصل هو مجرد جسّ نبض، أو محاولة لتفحص مواقع قوات الخصم، تمهيداً لذلك الهجوم، ما يفسّر استخدام الجيش الأوكراني استراتيجية هجومية مرنة، عبر شن هجمات مفاجئة وسريعة ومتنقلة، لكسر خطوط الدفاع الروسية وتحقيق تقدّم تكتيكي في مسرح العمليات.
بالمحصلة، فإنّ تلك الحرب كشفت حقيقة قوة روسيا او حدودها، وأظهرتها كدولة إقليمية، بحسب تعبير للرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، أو كدولة قوية في إقليمها، كما بدا الجيش الروسي، إلى درجة أنّ وزير الخارجية الأميركي الحالي اعتبر، في تصريح له أخيراً، أنّ جيش روسيا، بدا في تلك الحرب، “كثاني أقوى جيش في أوكرانيا، بعد أن كان يُعتبر ثاني أقوى جيش في العالم”؛ مع ما تبطّنه تلك العبارة من سخرية او شماتة.
ولعل أخطر ما تمخّضت عنه الحرب الدائرة في أوكرانيا، هو إمكان نقلها إلى الداخل الروسي، ما تمثّل في هجمات لطائرات مسيّرة، وصل بعضها إلى قصر الكرملين في موسكو، وقيام مجموعات، تتبع أوكرانيا (أوكران او روس) بشن هجمات على بعض المدن في الأراضي الروسية، مع كل ما قد ينجم عن ذلك من تداعيات، وردود فعل روسية، قد تُخرج تلك الحرب من نطاقها المحلي، الأمر الذي تلحظ بداياته في نقل أسلحة نووية إلى بيلاروسيا، ومعاودة بعض القادة الروس، بمن فيهم الرئيس ذاته، التلويح بإمكان استخدام السلاح النووي، للدفاع عن أمن روسيا، وحتى التهديد بضرب الكابلات البحرية، على غرار ما حصل بتفجير أنابيب الغاز (نورد ستريم)، مايؤدي إلى مشكلات كبيرة في الاتصال وشبكات التواصل والتداولات المالية والتجارية.
وعلى الصعيد الدولي، يمكن ملاحظة ان تلك الحرب شدّت عَصب الإتحاد الأوروبي، وحلف ناتو، والعلاقة الأوروبية – الأميركية، على عكس ما توخّى بوتين، في تبرير حربه، ما يمكن ملاحظته في تصريحات القادة الأوروبيين، الذين لم يعودوا يكتفون بتصريحات تفيد بأنّهم لن يسمحوا لبوتين بالفوز في روسيا، وإنما أيضاً بأنّهم لن يسأموا من دعم أوكرانيا، طالما أنّها تدافع عن نفسها في مواجهة الغزو الروسي، في تأكيد اعتبارهم انّ روسيا، في وضعها الراهن، تشكل خطراً على أوروبا، وهذا ما أكّدته وثيقة “استراتيجية الأمن القومي” الألماني، التي صدرت أخيراً، وما يؤكّده من الناحية العملية تدفّق المساعدات المالية والعسكرية إلى أوكرانيا من الدول الأوروبية، ويأتي ضمن ذلك ضمّ فنلندا، والسعي إلى ضم السويد، إلى حلف الناتو، وكذلك المناورات العسكرية لـ ٢٥ دولة (بينها الولايات المتحدة واليابان)، بين بحر الشمال وبحر البلطيق، والتي يقودها الجيش الألماني، لمدة ١٢ يوماً، مع اعتزام دول عدة مدّ أوكرانيا بطائرات “اف 16”.
كل المؤشرات تؤكد أن هذه الحرب ستستمر، وأنّ أخطارها ومآسيها ومفاجآتها قد تتزايد، طالما بقي الإصرار الروسي على اقتطاع أربعة أقاليم من أراضي أوكرانيا على حاله، إذ إنّ الطرف الأوكراني (ومن يدعمه) لن يقبل بأقل من وقف الحرب وانسحاب الجيش الروسي إلى داخل الحدود الروسية، باعتبار ذلك أساساً للتفاوض على باقي الملفات، وضمنها قضايا الأمن والحدود والعلاقات البينية.