ماجد كيالي يكتب : فاتورة الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة …

يشكل قطاع غزة بقعة صغيرة من فلسطين، فمساحته 360 كيلومتراً مربعاً، وهي تساوي 1,3 في المئة من مساحة فلسطين التاريخية، و6 في المئة من مساحة الضفة الغربية (6 آلاف كيلومتر مربع تقريباً).
بيد أن تلك البقعة الفقيرة بالموارد، والتي تقع في الزاوية الجنوبية لفلسطين، وكصلة الوصل بين بلاد الشام ومصر، وآسيا وأفريقيا، يقطنها مليونا فلسطيني، من سبعة ملايين بين النهر والبحر، من أصل 14 مليون فلسطيني في العالم؛ ما يجعلها من أكثر بقاع العالم كثافة، وذلك بسبب لجوء عدد كبير من الفلسطينيين من يافا ومدن وسط فلسطين إليها، إبان النكبة وإقامة إسرائيل (1948)، إذ إن أكثر من نصف سكان قطاع غزة هم من اللاجئين الفلسطينيين، يعيشون في ثماني مخيمات، وفي مدن القطاع.

مع ذلك فإن ذلك الوضع الصعب، والخاص، جعل قطاع غزة منطقة متميزة، فهي تعتبر مركز الوطنية الفلسطينية، لمرات عدة، الأولى، وقد تمثلت بعقد مؤتمر غزة وتشكيل حكومة عموم فلسطين (1948)، برئاسة أحمد حلمي عبد الباقي، التي لم يكتب لها الحياة، بسبب طبيعة النظام السياسي العربي، آنذاك، وبسبب ضم الأردن للضفة الغربية. أما المرة الثانية، فكانت بولادة الوطنية الفلسطينية المعاصرة التي بادر إليها قادة “فتح”، وأكثريتهم من قطاع غزة (ياسر عرفات، وخليل الوزير، وصلاح خلف، وكمال عدوان، ومحمد يوسف النجار، وممدوح صبري صيدم).

لكن مصير الوطنية الفلسطينية الذي آل إلى الهبوط منذ أفول ظاهرة الكفاح المسلح من الخارج، لا سيما بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان (1982)، والذي ترسخ أكثر بعد عقد اتفاق أوسلو (1993) وتحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى سلطة تحت الاحتلال، بدا في مواجهة تحد جديد مع انطلاق حركة “حماس” مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى (1987 ـ 1993).

في الواقع، فإن تلك الحركة التي تأسست في قطاع غزة، والذي بنت فيه سلطتها، بدت في نزاع، أو في تحدّ، للوطنية الفلسطينية، إذ نجم عن ذلك انقسام الحركة الوطنية الفلسطينية، وانقسام الكيان السياسي الفلسطيني، إضافة إلى التناقض في طبيعتها، أو في فهمها لطبيعتها، وفي صورتها إزاء الآخرين، فهل هي حركة وطنية أم هي إسلامية؟ هل هي حركة سياسية أم دينية؟ هل هي حركة ذات أجندة أممية أم ذات أجندة فلسطينية خالصة؟

منذ سيطرة “حماس” على قطاع غزة، بطريقة أحادية وقسرية، لم تستطع إدارة السلطة في غزة، بحيث تبدو كسلطة أفضل من تلك التي لـ”فتح” في الضفة، ولا الاستثمار في تحويل تلك المنطقة “المحررة” إلى جنين، أو نموذج للدولة الفلسطينية المقبلة والمفترضة، من جهة التطور الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والعمراني، وربما لم ترغب في هذا الخيار.
أيضاً، بما يخص المقاومة، فهي لم تستطع فرض خيارها على الفلسطينيين، إذ أدارت القطاع بطريقة أحادية، ولم تشرك أي فصيل حتى من حلفائها في ذلك، ثم هي جعلت من تلك المنطقة بمثابة قاعدة للمقاومة، أو لدحر الاحتلال، أو لتحرير فلسطين وإنهاء إسرائيل، علماً أن كل تلك الخيارات تحتاج إلى إمكانات أكبر من قطاع غزة، ومن إمكانات كل الفلسطينيين، كما تحتاج إلى معطيات عربية ودولية غير متوافرة، ما يعني أنها حمّلت فلسطينيي غزة فوق قدرتهم على الاحتمال في ظروفهم الصعبة.

في المحصلة، ومع كل التقدير للتضحيات والبطولات، فقد دفع فلسطينيو غزة ثمناً باهظاً جراء حصار إسرائيل للقطاع، وجراء نمط إدارة “حماس” للقطاع (مع الضرائب المفروضة عليهم رغم فقرهم)، الأمر الذي فاقم من مشكلات الفقر والبطالة وانعدام الأمل عندهم.

ويمكن لفت الانتباه إلى أن ذلك كله ينم عن تناقض، أو عن نزعة رغبوية، وحربية، إذ إن قطاع غزة يفتقد الموارد، ومصادر العمل، والأهم من كل ذلك أنه يعتمد في موارده على الخارج، لا سيما على المعابر التي تتحكم بها إسرائيل التي تسيطر على موارده من الماء والكهرباء والطاقة والمواد التموينية والمواد الصيدلانية وحركة الخروج والدخول.

وإضافة إلى كل ما تقدم، ثمة حاجة، أو تطلب، فلسطينيي غزة للعمل في إسرائيل، إذ ثمة نحو 20 ألف عامل نظامي يعملون فيها من أصل 200 ألف عامل (من فلسطينيي الأراضي المحتلة 1967)، وهو أمر يتناقض مع فكرة الصراع الوجودي مع إسرائيل.

أما فاتورة الخسائر البشرية، فإضافة إلى ضحايا “الحسم”، أي هيمنة “حماس” على غزة (2007)، وهم نحو 400 ضحية، ثمة أيضاً 326 فلسطينياً قضوا بالرصاص الإسرائيلي، ضمن ما سمي “مسيرات العودة” التي كانت “حماس” تنظمها، يوم الجمعة من كل أسبوع، طوال عامي 2018 ـ 2019 (بحسب إحصائية لمركز “الميزان” لحقوق الإنسان)، من دون أن تجبي عوائد مناسبة.
أما بالنسبة إلى الحروب والاعتداءات الإسرائيلية المتوالية ضد قطاع غزة، فقد قضى 1436 فلسطينياً في الحرب الأولى (أواخر 2008) مقابل 13 إسرائيلياً، و155 في الحرب الثانية (أواخر 2012) مقابل 3 إسرائيليين، و2174 في الحرب الثالثة (صيف 2014) مقابل 70 إسرائيلياً، و243 في الحرب الرابعة (صيف 2021) مقابل 12 إسرائيلياً، و44 في الحرب الخامسة (صيف 2022)، من دون أي خسارة إسرائيلية. أما من جهة النسبة فهي كانت دوماً في مصلحة إسرائيل بقدر كبير، إذ كانت في الحرب الأولى 1/100، وفي الثانية 1/50، وفي الثالثة 1/30، وفي الرابعة 1/20، وفي الخامسة 0 مقابل 44، مع ملاحظة تضاؤل الفرق الذي يبيّن نجاح “حماس” بتطوير استعداداتها وقدراتها القتالية.

وقد يجدر التنويه هنا إلى أن القطاع شهد حملة عسكرية مشددة ضمن تداعيات خطف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت (25/6/2006) نجم عنها، أيضاً، مصرع 556 فلسطينياً (من أصل 692 فلسطينياً استشهدوا في العام ذاته).

طبعاً الفكرة أن المقاومة ينجم عنها أثمان، وأن الاحتلال لا بد من أن يواجه مقاومة، لكن الفكرة هنا، أيضاً مع التقدير للبطولات والتضحيات، أن المقاومة والتضحيات تتطلبان عوائد سياسية، وأن تلك المقاومة يفترض أن تتوازن ولو نسبياً مع الإمكانات، ومع قدرة الشعب على التحمل، وأن تستنزف العدو لا أن تجعله يستنزف شعبها.

في الحرب الحالية التي بادرت إليها “حماس” ضد إسرائيل، ونقلتها إلى أراضيها، مع تكبيدها نسبة قتلى وجرحى وأسرى عالية، في عملية جريئة، وغير مسبوقة، بدا واضحاً أن “حماس” تشتغل وفقاً لاعتبار غزة قاعدة للمقاومة أو قاعدة للتحرير، وهو ما تبين حتى الآن، في تلك الاستعدادات القتالية، والمشكلة في هذا الخيار أنه لا يمكنه أن يخرق المعادلات السياسية والعسكرية القائمة، إلا من ناحية معنوية، وفي هز صورة إسرائيل وكسر تجبرها، كما أنه يمكن أن يفاقم من معاناة مليوني فلسطيني في غزة وتحميلهم فوق احتمالهم، وهو ما نشهد فصوله المأسوية والكارثية الآن، في استباحة إسرائيل لقطاع غزة واعتزامها اعدام مليونين من الفلسطينيين المدنيين، بذريعة “حماس”، استمراراً لسياستها في نفي الفلسطينيين، أو التعامل معهم كأنهم ليسوا بشراً، أو كأن ليست لهم حقوق كالبشر.

ومن جهة “حماس”، فإن مقتل تلك البطولات وتبديد تلك التضحيات قد يأتي من توظيف تلك المعركة في غير محلها، واعتبارها مجرد وظيفة لأجندات سياسية لأطراف إقليمية، لأن ذلك سينعكس سلباً على “حماس”، وعلى الشعب الفلسطيني، وعلى صدقية قضيته. كما قد يأتي من احتمال استثمار “حماس” لهذا التطور، أو هذا الفوز، لترسيخ شرعيتها ومكانتها في إدارة غزة، كدولة بذاتها، أو في احتلال مكانة حركة “فتح”، في قيادة للشعب الفلسطيني، أو كشريك لها في ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock