ماجد كيالي يكتب : إسرائيل كظاهرة استعمارية و عنصرية و رجعية أيضا
منذ إقامتها عام 1948، لم تظهر إسرائيل على حقيقتها كما ظهرت أخيراً في سياساتها إزاء الفلسطينيين. فإذا كانت تلك الدولة فقدت، منذ الانتفاضة الفلسطينية الشعبية الأولى (1987ـ1993)، مكانتها كضحية، في الضمير العالمي، وانكشفت كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، فإنها في حربها ضد فلسطينيي غزة، تكشّفت عن دولة تمارس الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني لمحوه من الخريطة الجغرافية والديموغرافية والسياسية، أو لفرض هيمنتها عليه كدولة استعمارية وعنصرية من النهر إلى البحر.
هذا الانكشاف يخص مواطني البلدان الغربية، بحكم قوة المجتمع المدني لديهم، وهو ما ظهر في الحراكات الشعبية في تلك البلدان ضد حرب الإبادة الإسرائيلية، والتضامن مع الفلسطينيين، إذ لم تعد إسرائيل في إدراكاتهم واحة للحداثة والديموقراطية في الشرق الأوسط، ولم تعد تمثل قيم الديموقراطية الليبرالية. وأهمية هذا الانكشاف أنه حصل قبل توحّش إسرائيل في حربها ضد فلسطينيي غزة، بحكم سعي حكومة نتنياهو وسموتريتش وبن غفير، التي باتت تعرف في العالم كأكثر حكومة متطرفة عرفتها تلك الدولة منذ قيامها، إجراء نوع من الانقلاب النظامي في إسرائيل، يتمثل بتقويض السلطة التشريعية، وتغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية ودينية على طابعها كدولة علمانية، ليبرالية وديموقراطية (نسبة إلى مواطنيها اليهود طبعاً).
هذا التطور الذي تبعته حرب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين مهّد لنوع من الانفكاك في علاقة إسرائيل بالمجتمعات، وحتى بالحكومات في الغرب، وهذا ينطبق على الولايات المتحدة؛ ولعل تلك هي واحدة من أهم خسارات إسرائيل في هذه المرحلة من تاريخها، رغم كل أوجه القوة التي تتمتّع بها، وهو ما يعزز تعلقها بالولايات المتحدة، واعتماديتها عليها.
أيضاً، فإن ما حصل في محاولة الانقلاب النظامي قبل حكومة اليمين القومي والديني المتطرف، وحرب الإبادة ضد فلسطينيي غزة، أدى إلى تصدع مكانة إسرائيل لدى يهود العالم، هي التي تعتبر نفسها دولة ليهود العالم، وملاذهم الآمن، وممثلاً حصرياً لهم، بعدما باتت تظهر كعبء سياسي وأمني ومالي وأخلاقي عليهم، وعلى البلدان والمجتمعات التي يعيشون فيها. هذا يفسر أن يهوداً من تلك البلدان كانوا من نشطاء التظاهرات التي تدين الحرب، رافعين شعار: “ليس باسمنا”، للتبرؤ من إسرائيل وحربها، وباتت شخصيات يهودية بارزة، تطالب حكوماتها بعدم التضييق على الحريات في بلدانها بدعوى مناهضة السامية، وعدم الربط بين اللاسامية ومناهضة سياسات إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والعدوانية، لصون حرية الرأي والتعبير للمواطنين، ومن ضمنهم الفلسطينيون في تلك البلدان.
في هذا الإطار، مثلاً، أصدرت شخصيات يهودية مهمة في ألمانيا بياناً احتجت فيه على محاولة المشرعين الألمان (في البوندستاغ) إصدار قانون يربط معاداة السامية بمعاداة إسرائيل، جاء فيه: “نحن، الفنانين والمؤلفين والعلماء اليهود الموقعين أدناه الذين يعيشون في ألمانيا، نود استخدام هذه الرسالة للتعبير عن قلقنا العميق بشأن قرار البوندستاغ المخطط له… من قبل الحزب الاشتراكي الديموقراطي، وحزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي، والحزب الديموقراطي الحر، وحزب الخضر… يدعي أنه يريد حماية الحياة اليهودية في ألمانيا… إن مشروع القرار الحالي خطير. فهو سيخنق حرية التعبير، ويعزل ألمانيا عن بقية العالم الديموقراطي، ويزيد من تعريض الأقليات العرقية والدينية للخطر… ويضعف بدلاً من أن يعزز تنوع الحياة اليهودية في ألمانيا من خلال ربط كل اليهود بتصرفات الحكومة الإسرائيلية”. (رابط البيان والموقعين: https://taz.de/Dokumentation-Protestbrief/!6032239/)
وكانت الكاتبة اليهودية الكندية نعومي كلاين قد دعت إلى التحرر من الصهيونية، في خطاب ألقته أمام تجمع يهودي كبير في نيويورك (نيسان /أبريل 2024)، بقولها: “لم نعد بحاجة لصنم الصهيونية الزائف، نريد التحرر من مشروع يرتكب الإبادة الجماعية باسمنا… الكثير من الناس يعبدون الصنم الزائف… إنهم مسحورون به وسكارى ومدنسون به… فكرة الصهيونية السياسية عن التحرر هي دنسة في حد ذاتها، واقتضت تهجيراً جماعياً للفلسطينيين من بيوتهم وأراض أجدادهم في النكبة… منذ البداية أنتجت الصهيونية وجهاً بشعاً للحرب. رأت الأطفال الفلسطينيين ليسوا بشراً بل تهديد ديموغرافي، تماماً كما خشي الفرعون في سفر الخروج من تزايد أعداد الإسرائيليين ولهذا أمر بقتل أولادهم… سمح للصهيونية بأن تكبر من دون مساءلة ولوقت طويل.. النهاية هنا.. يهوديتنا لا يهددها أشخاص يرفعون أصواتهم تضامناً مع فلسطين”.
هكذا، باتت ثمة شخصيات يهودية، في إسرائيل وخارجها، تقارن بين أعمال النازية وما تقوم به حكومة إسرائيل، وبين ما يجري في غزة وما جرى في غيتو وارسو (إبان الحرب العالمية الثانية). ويصف أبراهام بورغ (رئيس كنيست وأحد قادة حزب العمل سابقاً) الوضع بقوله: “حركة سياسية… يقودها نتنياهو… وأسسها القومية اليهودية المتطرّفة والعنصرية… ومناوئة للعرب… ومناهضة لليبرالية… والديموقراطية… والمساواة الاقتصادية والاجتماعية… نحن نتصرف بالفعل في المناطق التي قمنا باحتلالها في الضفة وغزة… كما تصرّف النازيون في المناطق التي احتلوها في الغرب”. (“هآرتس”، 5/9/2023).
وكان المفكر والمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه قد تحدث عن واقع حرب أهلية في إسرائيل، وهو ما ذهب إليه آخرون، أيضاً. ومثلاً، الباحثان دافيد أوحنا وعوديد هايلبرونر، تحدثا صراحة عن “حرب أهلية تجري في إسرائيل الآن تذكر بالألمانية الفايمارية، وحتى باللحظة الإيطالية عشية المسيرة الفاشية نحو روما… زعيم شعبوي وكاريزماتي هو نتنياهو، الموجود على بعد خطوة من أن يصبح زعيماً فاشياً… النقاش التاريخي الحديث حول فاشية أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين، لا يمكن أن يتجاهل الوضع السياسي في إسرائيل الآن؛ فتأسيس سلالة فاشية إسرائيلية متميزة ملطخة بالشعبية العرقية، اعتبر أخيراً إمكانية حقيقية… إذا أضفنا إلى كل ذلك الاحتلال والأبرتهايد الذي تتبعه إسرائيل منذ أكثر من نصف قرن في الضفة، والانتقال من الاحتلال “المؤقت” إلى وضع كولونيالي دائم…” (“هآرتس”، 14/6/2024).
هكذا، تظهر إسرائيل على حقيقتها أمام العالم، وأمام اليهود، داخلها وخارجها، تحت سيطرة الأحزاب اليمينية المتطرفة، الدينية والعنصرية، وبات الحاخامات يتحكمون بالتشريعات القانونية ومناهج التعليم والسلوكيات في المجتمع؛ وضمن ذلك الحط من مكانة المرأة وتقييد حريات الصحافة وأنشطة منظمات المجتمع المدني. في المقابل تتبرّم الاتجاهات العلمانية وتحذّر من تحوّل إسرائيل إلى دولة دينية ودكتاتورية في المنطقة، مع وجود شعبين وثقافتين، إذ العلمانيون من جهة والمتدينون من الجهة الأخرى، علماً أن ذلك ينبع أساساً من التناقض الذي نشأ مع قيام إسرائيل التي برّرت نفسها بالأسطورة اليهودية (“أرض الميعاد” و”شعب الله المختار”) رغم ادعائها أنها دولة علمانية، وكذا في اعتبار اليهودية بمثابة قومية.
هذا كله يفسّر أن إسرائيل باتت ظاهرة رجعية تسير عكس عجلة التاريخ، استعمارية وعنصرية ودينية وعدوانية، وهذه القراءة لإسرائيل باتت تجد سنداً لها عند الإسرائيليين أنفسهم، الذين يرون أن دولتهم لم تعد كما تخيلوها، وأنها تتحوّل في اتجاهات تمهّد لتفكّكها وأفولها، إلى حد حديث بعضهم عن تحولها إلى دولة دكتاتورية وفاشية وثيوقراطية.
وكان المحلل الإسرائيلي أري شبيط قد ذكر ذلك مبكراً، بقوله إن “متطرّفي الله اليهود يخرجون الآن في هجوم ضد الأقلية وضد الفرد وضد حقوق الإنسان. وهم يحاصرون المحكمة العليا والصحافة الحرة والمجتمع المفتوح. هناك طوفان لم يسبق له مثيل من العنصرية على العرب، وكراهية العلمانيين واضطهاد النساء، كل ذلك يُهدّد بجعل إسرائيل المتنورة إسرائيل الظلامية”. (“هآرتس”، 1/12/2011). وقبله كتب جدعون ليفي: “الحملة الدينية – القومانية بدأت منذ زمن وهي في ذروتها… يبدأ هذا من مجرد وجودنا ها هنا.. على حجج لاهوتية. فأبونا إبراهيم كان هنا ولهذا نحن هنا.. يستعمل العلمانيون أيضاً حججاً دينية وتوراتية لتفسير الصلة بين الشعب اليهودي وأرض إسرائيل.. لا يوجد زواج وطلاق مدنيان.. لا حافلات وقطارات في السبت.. يقرّر “حكماء التوراة”.. في قضايا سياسية مصيرية.. إسرائيل أكثر قرباً إلى طهران من استوكهولم في 2009، من الولادة إلى الوفاة، ومن الختان إلى الجنازة، ومن إقامة الدولة إلى إقامة آخر بؤرة استيطانية في الضفة”. (“هآرتس”، 14/12/2009).