عادل بنحمزة يكتب : ” المغرب يكسر سقف الحلم … الدّروس المستفادة “
حقق المنتخب الوطني المغربي لكرة القدم إنجازاً تاريخياً غير مسبوق في كأس العالم 2022 في قطر، حيث تساقطت الأرقام تباعاً وتحقق للكرة الأفريقية والعربية ما لم يتحقق منذ أول دورة لكأس العالم سنة 1930. الأمر لا يتعلق فقط بأرقام ترتبط بالكرة على المستطيل الأخضر، بل أبعد من ذلك، فالمنتخب الوطني المغربي كسر سقف الحلم والجرأة في التطلع إلى أعلى، لذلك تساوى في الفرحة والدهشة المحللون المختصون وأبسط سيدة عجوز في أقصى قرى المغرب أو أي مدينة أفريقية أو عربية أو حتى آسيوية. الجميع كان بحاجة إلى فترة للتمييز بين الحلم والحقيقة.
نعم ما عشناه طيلة هذا المونديال كان تمريناً على كسر سقف الحلم، بث دروساً عميقة ربما تصلح لأمور خارج كرة القدم والرياضة بصفة عامة، ذلك أنه رغم رغبتنا في حصر ما يحدث في لعبة كرة القدم، إلا أن الأمر بكل تأكيد يتجاوز ذلك بكثير، وعلينا أن نقر بهذه الحقيقة، وبدل أن نعاند في ذلك علينا أن نستفيد من الدروس التالية:
درس المغربة
الدرس الأول هو أن هذا الإنجاز التاريخي تحقق بفضل إطار وطني، وهو ما يعني أن الثقة في الأطر المغربية والاستثمار في تكوينها تكويناً جيداً سيعطي ثماره وإن تأخرت، بل عندما ننظر على الأقل في مجال كرة القدم، نجد أن أهم ما حققه المغرب في السنوات الأخيرة كان بفضل أطر وطنية، إذ يجب ألا ننسى أن أحسن إنجاز في تاريخ كرة القدم المغربية قبل مونديال قطر كان هو لعب نهاية كأس أفريقيا في تونس سنة 2004 بقيادة بادو الزاكي، والجميع يتذكر الروح التي لعبت بها العناصر الوطنية في المقابلة الفاصلة ضد المنتخب الجزائري، والتي انتهت لفائدة رفاق الشماخ بثلاثة أهداف لواحد، أيضاً يجب ألا ننسى أن فوز “الوداد” بعصبة الأبطال كان على يد كل من الحسين عموتة ووليد الركراكي، وفوز “نهضة بركان” بكأس الكونفيدرالية الأفريقية كان على يد طارق السكيتيوي، والملحمة الكبرى في كرة القدم للصالات مع الإطار الوطني هشام الدكيك الذي فاز بجميع الألقاب، ولا يخفي أن هدفه اليوم هو الفوز بكأس العالم، وآخر إنجازات الأطر الوطنية هو فوز فريق الجيش الملكي للإناث بعصبة الأبطال الأفريقية للسيدات تحت قيادة المدرب أمين عليوة.
هذه النتائج لا تظهر أهميتها فقط على مستوى العطاء التقني، ولكنها بصفة خاصة تظهر الروح التي تستطيع الأطر الوطنية زرعها في اللاعبين، وما يصنعه اليوم وليد الركراكي في كأس العالم، يوضح أهمية الجانب النفسي عند اللاعبين بشكل لا يقل قيمة عن الجوانب التكتيكية والفنية… يبقى الدرس هو: هل ستمنح الأطر المغربية الثقة الكافية في مجالات أخرى إضافة إلى كرة القدم؟
درس الطّموح
أثبت وليد الركراكي – الذي يصلح، إضافة إلى كونه مدرباً لكرة القدم، أن يصبح “كوتش” حقيقياً في الحياة بدل عدد من النصابين الذي احترفوا المتاجرة بلحظات الضعف والشك عند عدد من الناس – أن الإنسان المغربي ومعه الإنسان الأفريقي والعربي وكل الشعوب التي صنّفت بفضل عوامل اقتصادية وسياسية في مصاف العالم الثالث أنهم قادرون على تحقيق النجاح في ميادين مختلفة بالإرادة والعزيمة، وأن المعركة الأولى التي يجب أن يأخذوها، هي المعركة مع الذات، وذلك بكسر سقف الحلم، وبعدها تتحقق الأهداف والنتائج بكثير من الجدية والمثابرة.
درس الواقعيّة
لنكن صريحين، وليد الركراكي جازف بقبول تدريب المنتخب الوطني على بعد ثلاثة أشهر من المونديال، وكذلك فعلت الجامعة الملكية لكرة القدم، إذ جرت العادة في كل اتحادات الكرة أنها تبحث عن مدربين لهم خبرة في كأس العالم والمسابقات الدولية ذات المستوى العالي، والحال أن وليد الركراكي كل مساره التدريبي كان مع ثلاثة أندية هي “الفتح” الرباطي، “الدحيل” القطري و”الوداد البيضاوي”، لكن وليد في مساره هذا كان يبصم على أسلوب خاص ونتائج غير متوقعة، وربما كان ذلك هو رهان المسؤولين في الاتحاد المغربي.
وليد الركراكي غامر لأنه تسلم منتخباً يعيش مشكلات موروثة عن سلفه وحيد خاليلوزيتش، كما أن جودة اللاعبين تأثرت بعاملين، الأول هو أن أغلبهم ولظروف خاصة لا يلعبون بصفة أساسية ضمن فرقهم بالنظر إلى المنافسة الشديدة أو لحسابات خاصة بالمدربين، والعامل الثاني يتعلق بالإصابات، سواء بالنسبة إلى اللاعبين الذين تم استدعاؤهم إلى قطر مثل نايف أكرد، زكرياء بوخلال، عز الدين أوناحي، ورومان سايس، أم من سقطت أسماؤهم بمرارة من اللائحة مثل أمين حاريث نجم أولمبيك مارسيليا وتيسودالين، لوزة وماسينا. معنى ذلك أن الركراكي توجه إلى قطر ليس فقط ليلعب كرة القدم بناءً على ما يقدمه العلم من معطيات تتعلق بقدرة اللاعبين البدنية، بل ليلعب بالروح الوطنية لهؤلاء اللاعبين، لذلك عندما سئل قبل مقابلة إسبانيا عن الجوانب البدنية للاعبين ومدى جاهزيتهم في ظل الإصابات، قال إن الجوانب النفسية والمعنوية ستكون لها أهمية أكبر وكذلك كان، لذلك كانت قوة الركراكي في الوصفة التي مزج فيها بين الطموح العالي والواقعية في اللعب، بالنظر إلى ما يتوفر عليه من لاعبين أساسيين أو على دكة الاحتياط.
درس التّعددية
تابعنا بمشاعر غير مسبوقة ومؤثرة، كيف تم الاحتفاء بنتائج المنتخب المغربي عبر العالم، لكن بصفة خاصة في آسيا والعالم الإسلامي والعربي والأفريقي، فالتعددية التي تشكل عصارة الخصوصية المغربية القائمة على أبعادها الإسلامية، الأمازيغية، العربية، اليهودية، الأفريقية والأندلسية، تجعل كل مواطني تلك المناطق من العالم تجد في المغرب عنصر تقاطع، هذا العنصر هو ما يتم استثماره لتملك الفرحة التي يمنحها الفريق الوطني، وبذلك تصبح فرحة محلية أصيلة، تابعنا ذلك في غزة، بيت لحم، القاهرة، بيروت، جدة، الدوحة، دبي، أبو ظبي، المنامة، طهران، كراتشي، عمان، مسقط، تعز، صنعاء، أسوان، طرابلس، عكار، دمشق، حلب، تونس، الجزائر، وهران، دكار، أبيدجان، نيامي، نواكشوط واللائحة طويلة، كانت مشاهد مؤثرة تُشعر أي مغربية ومغربي بالفخر والاعتزاز، وأن الأمة المغربية الفخورة بتعدديتها تمثل هوية نموذجية يمكن البناء عليها، بل إن عناصر المنتخب الوطني أنفسهم يقدمون صورة رائعة عن هذه التعددية وفي أبعاد عالمية، حيث إن المحكي في المنتخب يتم بكل لغات العالم، وأساساً باللغتين الوطنيتين العربية والأمازيغية، إذ نجد إلى جانبهما كلاً من الفرنسية والإنكليزية والإسبانية والهولندية…
هذه التعددية هي مفتاح قوة الشخصية المغربية، لذلك يجب استثمارها أيضاً في مجالات أخرى غير كرة القدم…
درس التّسويق
تسويق صورة المغرب بالطبع يكلف الكثير، وهذا طبيعي جداً في أي بلد يعتمد على الاستثمار الخارجي والسياحة، لكن ما يقدمه اليوم المنتخب الوطني من تسويق مجاني لصورة المغرب لا تستطيع أقوى الوكالات المختصة في العالم تحقيقه. اليوم يبحث الناس من كل أنحاء العالم في محركات البحث على الإنترنت عن هذا المغرب الذي أبهرهم، بحيث تضاعفت عمليات البحث عن المغرب 26 في المئة في ظرف أقل من شهر. كثيرون يطرحون أسئلة عدة: من أين أتى هؤلاء؟ ما هي هويتهم وتاريخهم؟ هنا سيكتشف الكثيرون أن المغرب بلد عريق وحضارة ضاربة في جذور التاريخ، سيكتشفون لغاته ولهجاته وممالك مرت وعصراً إمبراطورياً بأمجاد كثيرة، سيتعرفون إلى العمارة المغربية واللباس الأصيل والمطبخ العريق، سيعرفون أن المغرب أول دولة تعترف باستقلال الولايات المتحدة الأميركية وأول من بنى جامعة، سيعرفون أنه بلد يعيش على مجد باذخ ويؤسس لمجد آتٍ في مختلف المجالات، فهل تستطيع المؤسسات المعنية بالصورة المغربية البناء على ما تحقق والاستثمار فيه بذكاء وهو لم يكلف شيئاً؟
درس التّشبث بالوطن وإعطاء معنى للهوية
الفرحة التي زرعها رجال وليد الركراكي في نفوس المغاربة لأكثر من أسبوعين، تساوى فيها كل المغاربة، حيث اختفت الفوارق المجالية والطبقية، التحم المغاربة واتشحوا بالعلم الوطني، ذرفوا الدموع فردياً وجماعياً، تعانقوا وهنأوا بعضهم بعضاً وهم لا يتعارفون شخصياً، اكتشفوا في لحظات رائعة أنهم ينتمون جميعاً إلى هذا الإنجاز الكبير ويحق لهم أن يفخروا به، لكن في رأيي أن أكثر المتأثرين بهذا الإنجاز هم الجالية المغربية في الخارج التي أثبتت في أكثر الظروف قسوة أنها أحن على الوطن. ففي ظل جائحة كورونا كانت تحويلات المغاربة في الخارج إلى أرض الوطن قياسية وغير مسبوقة، كانت الجالية مصدراً أولَ للعملة الصعبة. هذه الجالية تعيش عادة ظروفاً صعبة، منها ما يتعلق بالعنصرية مع تصاعد التيارات الشعبوية واليمينية في الغرب، ومنها ما يتعلق بالإشكالات التي يطرحها موضوع الهوية، بخاصة بالنسبة إلى الأجيال التي ولدت في المهجر، إذ إن سياسة الاندماج الفاشلة في عدد من الدول، جعلت كثيراً من المهاجرين يعيشون قلقاً هوياتياً، لذلك فإنهم يبحثون عن أي فرصة للتموقع الهوياتي وتقديم أنفسهم بفخر في مجتمعات الإقامة التي حتى ولو تحصلوا على جنسياتها، فإن تلك الجنسية عند الأغلبية المطلقة لا تعني شيئاً أكثر من كونها تثبيتاً لوضعيتهم القانونية وحماية لهم ولأبنائهم من عوائد الزمن. لذلك فإن فرح مغاربة العالم مضاعف وفخرهم بما تحقق بلا حدود، بخاصة أن غالبية لاعبي المنتخب، إضافة إلى الناخب الوطني، هم من الجيل الثالث والرابع من المهاجرين، لأن ذلك يمثل عامل قوة لهم ولأطفالهم في مواجهة آثار الهوية المرتبكة والمحاصرة بنزعات يمينية متطرفة وكل أشكال التنمر الممكنة في المدارس وأماكن العمل، فهل يمكن توقع تمكين مغاربة العالم من كل حقوقهم وفي صدارتها حقوقهم في المواطنة الكاملة من خلال حقوقهم المدنية والسياسية، بما فيها حق الترشيح والتصويت؟
كأس العالم في قطر 2022 ستظل خالدة في الذاكرة، وأنا من الجيل الذي ظلت عنده ميكسيكو 1986 وكأنها أمس، وهي مناسبة لشكر جيل تلك المرحلة الذي كلما تذكرنا ما حققه ساعتها قلنا لماذا لا نكرر ذلك أو نتجاوزه، وهو ما صنعه وليد الركراكي وباقي مكوّنات المنتخب الوطني اليوم.