سيلفيو برلسكوني …. مسار رجل ظل حاضرا في أهم الأحداث العالمية
لسيلفيو برلسكوني، الذي رحل قبل أيام عن عمر ناهز 86 عاماً، شخصية لا يمكن رسم معالمها بالأسود والأبيض. كان استثنائياً في مشاغباته وإساءاته وطرافته وجرأته الصادمة. ويكفيه من “الأمجاد” أنه مؤسس الشعبوية السياسية التي علّمها لكبار، كترامب وجونسون وأوربان وأردوغان.. وكثر غيرهم. إليه يعود الفضل في تطبيع اليمين المتطرف بالحكومات، التي يكاد حالياً يهيمن على العديد منها، بما فيها حكومة إيطاليا. ولهذا، على الأقل، سيبقى برلسكوني “حياً” في إيطاليا، وربما خارجها، على طريقة الشخصيات الباهرة، سلباً أو إيجاباً.
كان سبّاقاً إلى إدراك قوة الإعلام كسلاح لا بد منه للسياسي الناجح. واشتغل على استغلاله لتحقيق مآربه قبل سنوات من توني بلير، المعروف بمهارته بالتلاعب بالإعلام لترسيخ صورة من صناعته بعيدة من الحقيقة. إلا أن الفارق بينهما كان كبيراً. فبلير سياسي محنك، حاول من الخارج أن يحوّر “الرسائل” التي يبثها الإعلام. أما برلسكوني، فهو غير سياسي، واقتصادي فاشل، كاد اقتصاد إيطاليا يموت خلال السنوات العشر الأولى من هذا القرن التي يسمونها “عقد برلسكوني”. وقد دخل عالم الأحزاب لأنه أراد استخدامها وسيلة للنجاة بجلده من محاكمات وورطات لم يكفّ عن الوقوع بها، والإفلات منها كلها تقريباً، مع أن بعضها اشتمل على اتهامات بالفساد ودفع الرشى وارتكاب مخالفات أخلاقية، بينها إقامة علاقة جنسية مع قاصر.
كما تحكم بالإعلام بفضل ملياراته. هكذا كان يملك في مرحلة صعوده حصة الأسد في الإعلام الخاص المرئي والمسموع والمقروء بأنواعه. وحين صار رئيساً للوزراء يتحكم بقنوات تلفزيون “راي” الحكومي الثلاث، أمسك بقوة بخيوط 90 في المئة من وسائل الإعلام الإيطالية. وهنا بات برلسكوني يسخّر الإعلام الذي قد يربك السياسي أو يرمي به خارج اللعبة في نظام ديموقراطي، للترويج له وتعزيز قبضته على السياسة الوطنية وكثير غيرها. وكان هذا في طليعة العوامل التي ضمنت له البقاء على سدة الحكم في الفترات (1994-95، 2001-2006 و2008-2011) وهي مدة لم يستطع أي رئيس وزراء إيطالي أن يبلغها منذ بنيتو موسوليني.
لشخصيته الكاريزمية أثر يشبه السحر وهو متمرس في الهبوط إلى مستوى الناس العاديين والتحدث بلغة الحياة اليومية، الخالية من التزويق، حتى في أكثر الحالات فجاجة. وحتى إذا تجاهل المرء “فضائحه” الجنسية العديدة وأسلوبه في التعامل مع المرأة بذكورية مفرطة، ثمة الكثير من الأمثلة على جرأته اللافتة التي يسميها خصومه “وقاحة” تسببت في إثارة جدال واسع. مثلاً، تحامل مرة على الإسلام والمسلمين، وقارن نفسه في بداية حملة انتخابية بالسيد المسيح، واتهم قضاة إيطاليا بأنهم يعانون “اضطراباً عقلياً”، وقال علناً إن موسوليني لم يقتل أحداً!
ومع أنه استعراضي ماهر بدأ حياته مطرباً بسيطاً، فهو لا يمثل حين يقول ما يتردد معظم الناس، ناهيك بالسياسيين، في الإفصاح عنه. وكأنه عرف بالفطرة كيف يثير الجدال ويحدث صدمة. اعتبره البعض، في أوروبا والغرب، “مخبولاً” و”مهرجاً” أرسى قواعد عبادة الفرد في إيطاليا في مرحلة ما بعد الفاشية لفرط غروره وثقته بنفسه. واستغربوا كيف استطاع كسب ثقة الناخبين الإيطاليين الذين فتحوا له أبواب رئاسة الحكومة على مصراعيها ثلاث مرات.
هذا هو السؤال الذي طُرح بشأن بوريس جونسون، وبطريقة أخرى، حول ترامب، من قبله. وإذا كانت هناك مسحة من التصنع في سلوك ترامب، ويبدو “التهريج” طبيعياً عند جونسون، فإنه عند برلسكوني عفوي وفعّال أتاح له التأثير إلى حد لا يقاس بما حققه الأول والثاني. ثمة فروقات شتى بين برلسكوني وغيره من الزعماء الشعبويين الأوروبيين، مثل الرئيس الهنغاري فيكتور أوربان وأقطاب اليمين المتطرف عموماً، لعل من أهمها موقفه المؤيد للاتحاد الأوروبي.
وهو أقوى تأثيراً، على المدى الطويل، منهم جميعاً. صحيح أنه كانت لعهد ترامب، ولا تزال، تداعيات على نطاق واسع بحكم تربعه على السلطة في القوة الأعظم، بيد أن أثره على المستوى البنيوي والاستراتيجي لا يقارن بما حققه برلسكوني في تسعينات القرن الماضي، حين أدخل اليمين المتطرف في الحكم للمرة الأولى في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في الغرب. انطلاقاً من حرصه على تحقيق مصالحه الخاصة، مهما كان الثمن، وضع يده بيد اليمين المتشدد ممثلاً بـ”عصبة الشمال” و”التحالف الوطني”، وريث حزب “الحركة الاجتماعية الإيطالية” الفاشي الذي شكّله أنصار موسوليني في أربعينات القرن العشرين. وكان ممثل اليمين المتطرف نائب رئيس الوزراء في حكومة برلسكوني الأولى والثانية والثالثة، كما حضر ممثلوه بقوة في حكومته الرابعة والأخيرة.
ومن بين نواب اليمين المتطرف الذين وزّرهم في حكومته تلك (2008-2009) جورجيا ميلوني، عضو البرلمان عن “التحالف الوطني”. فقد عينها وزيرة دولة لشؤون الشباب، لتصبح أصغر سياسي يحتل منصباً وزارياً (31 عاماً) في تاريخ إيطاليا حتى ذلك الوقت.
ودار التاريخ دورته. وتصدرت ميلوني قوائم الفوز في الانتخابات الأخيرة، وشكلت حكومة ائتلافية ضمت رفاقها في أحزاب اليمين المتطرف وكذلك “فورزا إيطاليا” الذي يصنف في يمين الوسط، برئاسة برلسكوني. وكان في هذا مفارقة مضاعفة. فالزعيم المخضرم غدا عضواً في ائتلاف تقوده امرأة، وهو الذي أخذت عليه مواقفه المثيرة للجدل حيال النساء، كما بات تابعاً لليمين المتطرف الذي كان قد عمل على تأهيله سياسياً عبر حكوماته الأربع. وحصة حزبه في الائتلاف الحاكم حالياً خمس وزارات، بما فيها الخارجية التي يشغلها أنتونيو تاجاني، نائب رئيسة الوزراء.
والأدهى أن أحد أسباب فوز ميلوني هو نجاحها في قضم بعض نفوذ برلسكوني واجتذاب عدد من أنصاره إلى جانبها. ويرجح الآن أن رحيله سيساعدها على تعزيز موقعها في البلاد، الأمر الذي سيزيد من مخاوف ماتيو سالفيني، زعيم “عصبة الشمال” نائب رئيسة الوزراء. كما يغلب الظن أنها ستجتذب المزيد من أتباع “أستاذها” الراحل. لا بل يصل الأمر بالبعض إلى توقع أنها ستلتهم حزبه بالكامل الذي أنشئ لخدمة مصالح مؤسسه وزعيمه، ولن يستطيع البقاء متماسكاً بعدما غاب هذا عن الساحة. وحتى إذا نجا “فورزا إيطاليا”، فإن رئيسه لن يقود التيار المحافظ في إيطاليا، بجناحيه المتطرف ويمين الوسط، لأن هذه الزعامة أمست من نصيب ميلوني التي تعمل على تلطيف صورتها والاقتراب من خط برلسكوني.
وتنامي نفوذ اليمين المتطرف في إيطاليا ستكون له تداعياته على “أخواته” التي تزداد سطوة، في أنحاء أوروبا، من ألمانيا وبولندا وهنغاريا وفرنسا إلى هولندا والسويد وفنلندا. وقد يدخل ممثلو أقصى اليمين الحكومة الإسبانية المقبلة إذا خسر الائتلاف الحاكم بقيادة بيدرو سانشيز انتخابات تموز (يوليو) المقبل. ومع صعود اليمين المتشدد الذي لا يرأف بالبيئة ويعادي المهاجرين والفقراء والاتحاد الأوروبي.. هل سيشعر أحد بالامتنان لبرلسكوني الذي أخرج هذا “المارد” من القمقم؟