عادل الزبيري يكتب : ريان المغربي
أخوض منذ شهر صراعات داخليا حقيقيا، بين رغبة في الكتابة وبين نقيضها، تحت ضغط قلق السؤال الحارق للروح؛ ما الجدوى من الكتابة؟ وأخيرا جاء النص بعد مخاض قاسي جدا.
ما وجدت من قبل صعوبة في الكتابة أو في البوح، ولا في التوثيق المكتوب، عن تجربة صحافية مهنية ميدانية، كتجربتي في قرية جبلية في قبيلة اغمارة، بين قمم سلسلة جبال الريف في شمال المغرب.
فلا يزال في الرف مشروع كتاب ورقي توثيقي، عن رحلات صحافية مهنية ميدانية في المغرب.
ما تصورت أن عودتي إلى أصولي الجغرافية، في شهر فبراير 2022، بين قمم سلسلة جبال الريف، في شمال المغرب، ستتحول إلى تغطية لقصة صحافية فريدة من نوعها، غيرت حياتي إنسانيا، لأنني دخلت في تحدي غير مسبوق، مع نفسي ومع جسدي، للصمود وقوفا، بعد أن حاصرني طفل مغربي فقيد اسمه ريان، بعد أن مكث 5 أيام في بئر على عمق 30 مترا.
فكلما تذكرت الراحل ريان، بكى قلبي قبل عيني، أعترف أن تجربة الاشتغال الصحافي المهني الميداني، على قصة الطفل المغربي الفقيد ريان، حفرت في روحي أخاديد، ودفعتني إلى الانكباب على علاج نفسي، من طموحات الدنيا العابرة، بحثا عن عمق الأشياء الصامدة.
أعطاني ريان جرعة حب جديد للصحافة، قربني من أجمل شيء أحبه، أن يكون لحياتي دائما معنى، بأن أروي قصص الناس البعيدين المنسيين، من الذين يعيشون يومياتهم في سلام، يَصرخون ولا يُسمعون، ولو غنوا لما أنصتت لهم إلا الجبال.
عندما كانت السيارة تنزل بين منعرجات الجبل الأخير، قبل الوصول تقريبا إلى القرية، كان المساء يعلن مقدمه، وشمس يوم من سنة غير مطيرة تغادر، لتفسح المجال لبرد الجبال، وفجأة اختنقت الطريق الضيفة، فتوقفت الحركة.
ركنا السيارة، وقررت المضي قدما مع المصور نهار، ومن دون تخطيط مسبق، تبدأ مغامرة من خوض مشيا على الأقدام، بين منعرجات جبلية، طيلة 3 ساعات مشيا، في ظلام حالك ما فكه إلا ضوء خافت من هاتفي المحمول.
مشيت حاملا على ظهري حقيبتي، بين صعود ونزول، بين حقول ومسالك وعرة ووديان صغيرة، وسقطت مرارا، ولكن نهضت من جديد، لأواصل مسيري صوب مصيري، بحثا عن نقطة النهاية؛ مكان عمليات الحفر، بحثا عن طفل مغربي اسمه ريان.
لم يتيسر الأمر إلا بصعوبة، رغم طلبي للمساعدة الإنسانية من للذين تقاسمنا معهم هذه المسالك الوعرة، من الذين عبروا بنا؛ فقلة منهم مدوا لنا عونا، فيما غالبيتهم تمنوا لنا السلامة ورحلوا في عكس اتجاه سيرنا.
فواصلنا الصعود إلى أن رأيت بيتا فيه إضاءة، وأطل علي رجل بجلباب، بادرني بالسؤال عن ما الذي أبحث عنه، فقلت أني راغب في شرب الماء، فمدني بكأس من ماء شربتها الهوينا، بلت حلقي وروتني، وكان ماء أنقذني من ثلاث من ساعات شداد، لتبدأ قصة أخرى من صداقة إنسانية، ما أجمل أن يغيث أمغار غريبا مثلي، نبت فجأة ليلا في قمة الجبل، ولو بكأس ماء.
قبل أن تدق الساعة منتصف الليل، وصلت أخيرا إلى موقع عمليات الحفر، بمساعدة من شاب مغربي اسمه علي، أصبح صديقا، وعلي ابن الرجل الشهم من سقاني ماء، هالني المشهد، جرافات لا تتوقف عن الزمجرة وفي المناوبة، ومرابطون من المواطنين بالآلاف، يملؤون المشهد، لا يتعبون ولا ينصرفون.
التقاط أول المشاهد بالكاميرا، كان صعبا جدا بل شبه مستحيل، الأعناق تشرأب في اتجاه مكان عمليات الحفر، وجماعات تفرقت حول نقاط من نار جرى إشعالها، باستخدام الحطب، وضعف في شبكة الإنترنت، وفي إشارة تغطية الهاتف المحمول.
تعرفت على منزل عائلة الطفل المغربي الفقيد ريان، في ربوة تطل على موقع العمليات الرئيسي، في سياق البحث عن مكان يضمن زاوية تصوير، وتغطية بالإنترنت، بين قمم سلسلة جبال الريف، وسط آلاف من المواطنين المغاربة يصلون الليل بالنهار، يتابعون عمليات الإنقاذ، بين مصور بهاتف محمول، وبين مراقب فقط، والجميع يرتدون جلاليب مزركشة قصيرة.
امتد زمن القصة 6 أيام، في صلة بين النهار والليل، بنفس الملابس، للعودة لاحقا إلى بيتي محملا بالتراب وبالغبار، في تجربة عمقت حبي للأرض وللجبل وللإسنان وللصحافة.
ومرت نصف الأيام بلياليها، من دون أكل ولا شرب، والجسد يقاوم إلى غاية استكمال القصة كاملة، من أجل الطفل المغربي الفقيد ريان، فكلما غالبني الدمع خلوت بنفسي، وأخفيت وجهي وسلمت لدمعي طريق الخروج الآمن.
اختفى الشعور بالعطش وبالجوع وبالحاجة إلى الجلوس، وسط كل الظروف التي لا تساعد على العمل الصحافي المهني، والاضطرار للصبر لغاية إعادة شحن البطاريات، بتيار كهربائي ضعيف، ووسط مضايقات من المواطنين، ودفعهم لي في بعض الأحيان.
تشققت شفتياي وسالتا دما، تورمت قدماي بنفس الجوارب في نفس الحذاء، زاد أنين أسفل ظهري، وارتفع صراخ ركبتاي، أوقفت دواء محاربة تورم في ضرس، واكتفيت بشرب ماء وخبز وما كان هدية من صديقنا الأمغار سي عبد الخالق، من كرمه المغربي.
سيبقى ريان المرتاح في قبره، تحت أشجار خضراء ضليلة، بين قمم سلسلة جبال الريف في شمال المغرب، جرحا عميقا في قلبي دائما، وذكرى جبل خضت صعوده ونزوله مرارا وتكرارا من دون تعب، لأروي لكل العالم أن طفلا صغيرا ما جاوز 5 أعوام، أمسى وأصبح لأيام حديث الناس.
علمني ريان أن أكون أبا أكثر وأن أكون إنسانا أكثر وأن أكون صحافيا مهنيا أكثر وأن لا أهتم أكثر وأن أحلم أكثر.