سعيد ناشيد يكتب : ملل يوم الأحد
أمضيت اليوم كله بحثاً عن فيلم أمضي به اليوم”، بهذه العبارة التي تشبه المفارقات المنطقية تحدّثت فتاة عن تجربتها مع ملل يوم الأحد. المفارقة هي إمكانية تمضية الوقت بحثاً عن إمكانية لتمضية الوقت! لكنها مفارقة الكثيرين.
غير أن فشل تلك الفتاة في العثور على فيلم مناسب داخل عصر توفر فيه شبكة الإنترنت من الخيارات ما لا يعد ولا يحصى، يحيلنا إلى مفارقة من نوع آخر: بقدر ما تتّسع دائرة الخيارات تتقلص قدرة الناس على الاختيار. يتعلق الأمر بمفارقة تطاول كثيرا من التجارب الإنسانية، من قبيل المجتمعات ذات التعدّدية الحزبية الفائقة، والأسواق ذات البضاعة المتنوعة بإفراط، والتجارب العاطفية ذات الخيارات الواسعة.
يوم كانت المركبات السينمائية والقنوات التلفزيونية توّفر للمشاهدين خيارات معدودة، فقد كان الخيار سهلاً وممكناً، لكن اليوم حيث توّفر شبكة الإنترنت ملايين الأفلام الجاهزة للتحميل والمشاهدة، لذا طبيعي أنّ تتقلّص قدرة الناس على الاختيار، بحيث لم يعد لهم الشغف نفسه بالسينما، والأندية السينمائية، وسينما نهاية الأسبوع، بل أوشكت مشاهدة الأفلام أن تصير من الأمور النادرة.
المفارقة أنّ معظم الناس على منوال تلك الفتاة، يضيعون كثيراً من الوقت في الإبحار في عوالم الإثارة بحثاً عن فرصة لتضييع الوقت. غير أنّ عوالم الإثارة من فرط إثارتها ووفرتها وقعت بدورها في دائرة الملل، أي صارت مملة، وغالباً ما تعاود إنتاج الملل بشكل أشدّ وطأة.
- بقدر ما تتّسع دائرة الخيارات تتقلّص قدرة الناس على الاختيار
كان الفيلسوف الفرنسي، بليز بسكال، دقيقاً في ملاحظته: “كنت دائماً أقول، شقاء الناس له سبب واحد، إنهم لا يعرفون كيف يمكثون داخل مساكنهم” (الخواطر). صار هذا الكلام اليوم أكثر انطباقاً على أيام الأحد. غير أنّ تجربة ملل يوم الأحد تتعلق بالمدن الحديثة، حيث تكون معظم المحلات والإدارات مغلقة على غير ما تألفه النفس في سائر الأيام، ويكون على المرء العيش بدون برنامج على غير ما تألفه النفس كذلك. الأحد تقاعد صغير.
- لا أذكر من قالها لكنها قيلت: “يريد الإنسان حياة طويلة مع أنه لا يعرف ما يفعله يوم الأحد!”.
تلك هي الحقيقة إذاً، كلنا ننتظر يوم الأحد على أحرّ من الجمر لكي نفرغ لأنفسنا، وما إن يأتي حتى لا نعرف ما الذي نفعله بأنفسنا! ملل الأحد أثارته بعض الروايات العالمية الشهيرة، فقد سبق لألبير كامو أن جعل بطل روايته (الغريب) يشكو من ملل يوم الأحد، ذلك اليوم الذي لم يكن يحبّه.
يوم الأحد مُمل إلى درجة أننا قد نصرف كثيراً من المال لأجل صرفه، وهو الاستعداد الذي تستثمره بعض الوصلات الإشهارية، ولو بنحو مخادع. مثلاً، أحد محلات الوجبات السريعة يكتب في الوصلة الإشهارية للتوصيل المجاني عبارة، “اكسر ملل يوم الأحد، وخلي الطلب عليك والتوصيل علينا”. والحقيقة أنّ الوصلة الإشهارية تبيع للناس حلاً سهلاً ومضللاً: يمكنك أن تقضي على الملل بالكسل، تماماً مثلما يحاول معظم السجناء كسر مللهم من خلال عدم فعل أي شيء سوى انتظار الوجبات اليومية.
يكمن ملل الأحد في طبيعة الأحد، حيث نُترك فجأة بلا برنامج ملزم، بعد أن نكون قد ألفنا وجود برنامج يومي طيلة الأسبوع، وبحيث نُترك فجأة لأنفسنا التي لم نألفها خلال أيام الأسبوع. وفي غياب الألفة مع النفس، نتوه وسط خيارات لا معدودة ولا محدودة، لا سيما في عالم “العوالم الافتراضية”. يزيد من كآبة المشهد غلق معظم المحلات والمؤسسات. طبيعي أيضاً أن يبدو الوضع أشدّ قتامة في العواصم الإدارية. ومن يدري؟ ففي وقت تدخل فيه أوروبا إلى عصر ما بعد المسيحية، أو ما بعد الأديان عموماً، قد يكون ملل يوم الأحد هو الدافع الأخير إلى الكنائس.
- تحرز الرأسمالية نجاحاً كبيراً في استثمار ملل التقاعد لأجل تمرير قوانين تمديد سن التقاعد، بأقل ما يمكن من المقاومة
تعود عطلة نهاية الأسبوع إلى القرن التاسع عشر، مرحلة التطور الصناعي في أوروبا وشمالي أميركا. لكن في الوقت الذي أوحى فيه تطوّر وسائل الإنتاج بإمكانية ارتفاع أيام عطلة الأسبوع ليصبح ثلاثة، بعد أن أصبح يوماً ونصف أحياناً، أو يومين أحياناً أخرى، فضلاً عن إمكانية خفض سن التقاعد إلى أقل من الستين، فالمفاجأة أنّ الرأسمالية بدأت تستغل ملل الأحد لتجعل الناس يتقبلون عن طيب خاطر التخلّي عن فكرة أن يكون الأحد يوم عطلة بالضرورة، ما يشمل السبت أيضاً. وفعلاً فقد شرعت بعض المدن الغربية في التخلّي تدريجياً عن إجازة الأحد. هذا وتشهد بعض الدول مثل الدنمارك جدلاً حاداً حول إمكانية إلغاء إجازة الأحد كحل للركود الاقتصادي. بالموازاة تحرز الرأسمالية نجاحاً كبيراً في استثمار ملل التقاعد لأجل تمرير قوانين تمديد سن التقاعد، بأقل ما يمكن من المقاومة.
من سيكسر من؟
هل سيكسر الإنسان المعاصر ملل يوم الأحد، أم ستكسر الرأسمالية المعاصرة يوم الأحد؟
- سؤال للتأمل والتشويق، وبالتالي فرصة لتكسير بعض الملل.
النصّ جزءٌ من مدوّنة “الفلسفة والناس” التي تتناول نصوصًا حول الأفكار الفلسفية، لكن بطريقة مبسّطة عبر استعراض أمثلة من حياة الناس وتجاربهم.
رأيت جسدي المتعب من معركة البارحة ملقى على الأريكة بفوضوية غير معتادة. بدا لي شاحباً، كما لو كان جثة خالية من الحياة، فتذكرت حينها أنني عائدة لتوي من حرب ضروس، حيث أقف كشاهدة وحيدة في محكمة التاريخ، أخفي عن الناظرين تسلّلي الزمكاني إلى تفاصيل المعركة، فيضطرون لمواجهة بوحي الأخرس، أعزل.
هنا لا سبيل للعبور سوى الذاكرة، بعيداً عن أنظار شرطة المرور. بوحنا هنا، كالحب في الخفاء، كعبادة الماضي وتقديس النسيان، لهذا أعود من حين لآخر لأيام خلت، حيث النشوة على قدر الألم. حبّك العنيف الذي يهوى الاستعلاء على عفة الهيام وبراءته، حبّك الأناني الذي ينفجر غضبه المهيب كالبركان كلّ خمس ثوانٍ، حبّك هذا هو الألم الذي يمدّني بفائض من النشوة، ونشوة الألم الذي يرافق وجودكَ السادي هي معركتي وحربي الضروس.
أنا امرأة قضت حياتها معلّقة على مشجب انتظارك، أنا معطفك المهترئ الذي مللته، أنا ذاكرتك التي تحارب النسيان فيك، أنا المفعول بها في فلك اللغة وأنت الفاعل إذ تُبكيني، وتعيد تسمية روحي، وتمتص غضبي.. تحتويني. أنت الفاعل إذ تطرق باب حياتي كلّما أصابك الملل ووضعتك هي في لائحة الانتظار، أخدع نفسي باعتناقي مذهب انتظارك، أرهف السمع كلّما تعالى وقع خطواتك ليتبيّن لي في كلّ مرّة أنك صوبها متجه. توهمني حينًا أنني وحيدتك، وأنني إلى فؤادك أنتمي، حتى ما ظلّ لي عنوان واستيقظت ذات يوم وأنا طريدة حبك، أطلب صدقات غيرك من المحبين، وأخفي خيبتي بابتسامة ساذجة، كأنّ صدك لا يمزقني، كأنّ هجرك لا يحيّرني، كأنّ تقلباتك لا تدفعني نحو ناصية الجنون. وتعود لي خائبًا للمرة الألف متوقعاً مني استقبال المخلصين، وتجعل من حبي منتجعاً للنسيان. أتراك نسيت أم تناسيت أنْ للحب عدّاداً يتوقف بنفاد قدرتنا على الصبر، وقدرتي على تحمل المد والجزر قد انتهت بغرقي في بحر حبك.
- قدرتي على تحمّل المد الجزر قد انتهت بغرقي في بحر حبك
ها هو ذا قلمي يغويني من جديد، يجعلني أكتبكَ غصبًا عني، ويفضح شهقة قلبي بلقياك، يزيل الستار عن ضعفي في حضرتك. قلمي هذا ما عاد رفيقي في الأدب ولا شريكي في الكتابة، بل صار لك حليفًا ولأوامِرِكَ مُلَبِّيًا. قلمي الذي شهد شروق أفكاري، ما صرت آمن معه على أسراري، لأنني أدرك جيدًا أنه على استعداد لأن يشيَ بي. قلمي الذي كتب قصص الثائرين، بات يثور عليَّ لأجلك، وأنا قررت أن ألوذ بالقمع كما أنظمتنا العربية. وبعد أن جَفَّ دمع عيني، أصبح قلمي يبكيك حِبْرًا. ها قد خانني قلمي وظل وفيَّا لذكراك، أتُراكَ في أكثر من هذا تطمع؟
أمسك قلمي لأهرب منك، وإذا بك تخرج من القلم كجِنِّي في مصباح علاء الدين، أجد نفسي أخطك بيدي على صفحات مفكرتي وأراكَ بوضوح حينها. تصبح كائني الحِبْري، أحارب بكَ جيوش الاستعمار، وبك أنتصر على العدو وأعمّر الوطن وأفتح القدس، لأقَعَ في حب نسخة منك، لست تشبهها في شيء. ساذجة كنتُ وأنا أمني بك نفسي، كم بدوت صعب المنال، شامخًا بعيدًا عن واقعي، ونسيت في خضم الكتابة أنك جئت من رحم حبري وأنني من وهبَتْكَ الحياة.. كتبتك ما عرفتُكَ.. أنت الحلم ابن الخيال.
نسيت في خضم الكتابة أنك جئت من رحم حبري وأنني من وهبَتْكَ الحياة… كتبتك ما عرفتُكَ… أنت الحلم ابن الخيال
يتراقص جسدي في حركات لاإرادية، وما هي إلا دقائق قليلة منذ بداية طقوس الرثاء هذه حتى أفقد السيطرة بشكل كامل على بدني، جسدي الذي احتوى روحي لأكثر من ثلاثين سنة، جسدي الذي تلبسه طيف الأسى ليسمح لكلّ مشاعري التي أصررت على إنكارها بأن تجد مخرجًا من سجنها المقفر. يومها، أنجبت حزني وحريتي، صرت أما.. وأخيرا فعلت الأمر الذي عيّرتني بعدم قدرتي على القيام به.
إن باغتتك ذكرياتنا وأنت في خضم الحياة تتأرجح بين يأس وأمل فلا تقارنني بمن حولك، بمن اتخذتهم مني حبلك للنجاة، وبتّ بهم غريقًا لم يلفظه البحر بعد. ألقاك في الشاطئ في ضيافة الرمال، بعد فرحة وحزنين.. لتكون حزني الثالث.
بين الحب والمجون مسافة لا تقاس، وأسئلة مستباحة لا يتجرّأ على طرحها أحد. بين الحب والجنون وعود خلقت لتخلف، وكبرياء واعتزاز بالنفس، وغيرها من أمور تغتال حرمة الهيام في عقر دارها. بين الحب والسكون أفكار تعتمل في العقول، توقظ الضمائر من سباتها لتثور في وجه الإهانة. بين الحب والفراق كلمة أو اثنتان، أو مسافة الطريق من خط البداية إلى الشقاق، وعهد كاذب باللقاء. تحملنا ريح الحب نحو مدينة الخطايا، فنتطهر من حب كما من جريمة. لم يبق مِنَّا سوى رماد أيام خَلَت قد أحرقناها فاحترقنا بنارها، وذكريات يتيمة دفنها النسيان، وأخرى عوّضتها الحياة في مدينة يهجو أهلها الحب ثم يبكون الفراق سرًّا. ها نحن نقتات على الأفراح الصغيرة لننسى فرحة العمر المسلوبة، نرقص على إيقاع أغنية الوداع رقصتنا الأخيرة. يتعجب الناظرون من سعادتنا ونحن على مشارف الفراق، ذلك أنّ الحب حلم كبير وما الفراق إلا لحظة استيقاظ، لذا نحن لا نبكي حلمنا بل نمنّي أنفسنا بحلم جديد.