حسن نجمي : كتب الصديق سمير اليوسف …. بورخس وكتاب الله المفقود
أصحاب الخيال الجامح من شعراء وأدباء وفنانين ابتكروا مخلوقات لا وجود لها، واكتشفوا قصورا وقلاعا ومدنا متوافرة فقط في جغرافيا أحلام اليقظة. خورخي بورخس، ذلك الأديب الأرجنتيني العبقري، اكتفى، من جانبه، باختلاق كتب لم تكتب يوما، موسوعات معرفية ومخطوطات وقصائد. بل والأنكى من ذلك، في سياق الإمعان في الخيال، بعض هذه الكتب، بحسب الخبراء، الذين هم أنفسهم شخصيات خيالية، زائفة أو ناقصة أو حتى مفقودة.
ما ابتكره بورخس كان أشد إثارة للدهشة من كافة مخلوقات المؤلفين ممن جاؤوا قبله أو بعده، مشددا بذلك على أن الكتاب أكبر من العالم لأن الكتاب يحتوي على ما يوجد من كيانات وفي الوقت نفسه ما لا يوجد أيضا.
من منطلق علماني محض، يبشر موقف بورخس هذا بانتصار النص المكتوب (الكتاب) على الحكاية المروية المتناقلة من جيل إلى آخر والثقافة الشفوية عموما. أو على ما يصف الفيلسوف الألماني والتر بنيامين، في مقالته الرائعة “الحكواتي”، في الوقت نفسه تقريباً، بالإنتقال من عصر القصة الشفوية إلى عصر الرواية، من عصر الحكواتي إلى عصر الروائي.
لكن بورخس لم يكن مؤرخا ثقافيا علمانيا. وخلف تصوره هذا تقف الفلسفة المثالية لأفلاطون وبيركلي وشوبنهور والتصوف الديني أيضا. لا غرابة أنه اعتبر العالم اللامحدود بمثابة مكتبة والمكتبة هي عالم المثل والأفكار التي تحكم معرفتنا بحقيقة الوجود. هذا التفكير المثالي الذاتي يرسو على أساس تصور صوفي ديني للعالم يجعله يرى العالم بمثابة نص كتبه الله. وكتب الله، الكتب المقدسة، نفسها هي “مكتبة” المعرفة المطلقة.
بحسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، بورخس جعل المكتبة حقل البحث عن الجديد، الغريب والمدهش، وليس الليل أو الغابة أو الجزر البعيدة. وأنت إن كنت تطمح للمعرفة المطلقة للوجود، فلا بد أن تعود إلى النص الأصلي، النص المقدس. كل الكتب، المكتبة برمتها، كتاب واحد، كتاب الله المفقود.
بورخس لا يشكك بصحة أو مصداقية الكتب السماوية والمقدسة المتوافرة. بالعكس تماما! فهو يعتبرها أمهات كل الكتب ولكن الكتب السماوية نفسها ليست سوى فروعٍ وإشتقاقات من كتاب الله الأكبر. الجد في المعرفة، السير في طريق المعرفة، بحسب القناعة الصوفية لدى بورخس، هي الدافع التقريبي لإفتراض وجود موسوعات معرفية لا وجود لها أصلا، أو لم يكشف النقاب عنها بعد. وهي حتى إن تم العثور عليها فمن المرجح أن نكتشف بأن أحد مجلداتها ناقص أو زائف بما يفضي الى مزيد من البحث، فطريق البحث عن نص الله الكامل لا نهاية له.