المفكر المغربي سعيد ناشيد : فن تكسير الملل (4)
نشعر بالملل حين لا نجد ما نفعله، مثل العاطلين عن العمل، لكننا نشعر بالملل أيضا حين نكرر فعل الشيء نفسه كل يوم، مثل مراقبي جوازات السفر. نشعر بالملل حين لا نتوقع أيّ شيء جديد، مثل المحكومين بالمؤبد، لكننا نشعر بالملل أيضا حين تصبح كل الأشياء متوقعة، مثل أشغال البيت. نشعر بالملل حين لا يتوفر لنا أيّ شيء مثل المهاجرين السريين، لكننا نشعر بالملل أيضا حين يكون كل شيء متوفرًا مثل الأطفال المذللين. نشعر بالملل حين ننام لوحدنا مثل العزاب، لكننا نشعر بالملل أيضا حين ننام يوميا مع الشخص نفسه مثل المتزوجين.
حياة المحرومين مملة، لكن حياة المترفين كذلك.
حياة العاطلين مملة، لكن حياة الموظفين كذلك.
حياة العازبين مملة، لكن حياة المتزوجين كذلك.
نسافر بدافع الملل ثم سرعان ما يدفعنا الملل إلى العودة، كما لاحظ لوكريتيوس. نرغب في الشيء، وما أن نحصل عليه حتى نمل منه، كما لاحظ شوبنهاور. وبالجملة فإننا نرغب في لعبة نكسر بها الملل، ثم سرعان ما نكسرها بنشوة الأطفال أملًا في تكسير الملل. هكذا نمضي من ملل إلى ملل، في دوّامة لا تنتهي إلا بانتهاء الحياة.
صحيح أن الألم سيئ كما يرى أبيقور لأنه يشل القدرة على الاستمتاع بالحياة، وأن الخوف سيئ كما يرى فيلسوف أبيقوري آخر، هو لوكريتيوس، لأنه يشل القدرة على استعمال العقل، وأن الحزن سيئ كما يرى فيلسوف أبيقوري ثالث، هو سبينوزا، لأنه يشل النمو والحياة، لكن، أكثر ما يدفع الإنسان إلى الانتحار ليس الألم ولا الخوف ولا الحزن، بل الملل.
خلال حملة اعتقالات عشوائية قبل ثلاثة عقود مضت، صادفتُ محاميا تم اعتقاله عن طريق الخطأ، كان موقنا بأنه سيطلع من الزنزانة مع طلوع النهار، وقد طال به الليل وتثاقل عليه الزمن، كلما نظر إلى ساعته إلا وازداد توتره، إلى أن أخرج من جيبه أعواد ثقاب، وبدأ يشعل في كل مرة واحدة، يقربها من أصبعه كما لو أنه يختبر حدود الألم التي يمكنه بلوغها. كنت أتأمل فيه مندهشا، لكني لاحظت أن توتره كان ينخفض كلما ازداد ألمه. لعل ذلك هو القصد، سواء بوعي أو بلاوعي.
يحدث أن يهرب الإنسان من الملل إلى الألم.
يحدث أن ينسج الإنسان لنفسه آلاما يضمد بها جرحا أكبر، هو جرح الملل.
وهذا أصل كثير من الحكايات.